السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
إنالإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صلىالله عليه وسلم يردد كثيرا: " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأنيكله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا".
وإذا رجعنا إلىالمعنى اللغوي للتضرع لوجدناه يدو ر حول الطلب بذل وخضوع واستكانة، ومادةضرع تدل على لينٍ في الشيء، ومن هذا الباب ضرع الشاة، فلو نظرت إلى صغيرالحيوان حين يلتقم ثدي أمه ، فيلح ويرتفع وينخفض ويجتهد بكل قوته كي يجذبهذا اللبن الذي به حياته لعرفت مدى الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنىالشرعي للتضرع فالتضرع هو دعاء الله وسؤاله بذل وخشوع وإظهار للفقروالمسكنة، وهذا الحالة يحبها ربنا ويرضاها، بل أمر عباده بها:
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55)
يأخذ عباده بالبأساء والضراء ليتضرعوا.
إنمن أعظم أسباب دفع البلاء تضرع العبد لربه جل وعلا كما بيّن الله في كتابهالكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَفَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْقُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأنعام:43،42) )
فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله.
إن العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغيأن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرضواأنفسهم لعقوبة الله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَاعَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُواأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُالْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام: 44،45)
ولقد أخبر الله تعالى عن أقوام ابتلاهموتوعدهم بالعذاب فاستكان بعضهم وتضرع إلى الله فكشف الله عنهم عذابالدنيا، وأخبر عن آخرين ابتلاهم وتوعدهم لكنهم تكبروا وتجبروا ومااستكانوا ولا تضرعوا فأخذهم العذاب.
أما الأولون الذينتضرعوا فمنهم قوم يونس عليه السلام الذين قال الله عنهم: (فَلَوْلاكَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَلَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِالدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)
وقدذكر بعض المفسرين أن قوم يونس خرجوا إلى الطرقات واصطحبوا نساءهم وأطفالهمودوابهم ودعوا وجأروا إلى الله، وقيل : إنهم ظلوا على هذه الحالة أيامايدعون ويستغيثون ويتضرعون ويبكون فكشف الله عنهم عذاب الدنيا منةً منهوفضلا.
أما الآخرون الذين لم يظهروا الفقروالضراعة فقد قال عنهم: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَااسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ* حَتَّى إِذَا فَتَحْنَاعَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(المؤمنون: 76،77)
الرسول صلى الله عليه وسلم سيد المتضرعين:
لقدكانت حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم كلها لله، وقد عرض عليه ربه أن يجعلله بطحاء مكة ذهبا فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يا رب، ولكن أشبع يوما،وأجوع يوما. فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك."
وقد رأيناه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى.
في الاستسقاء:
خرج متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد.
وعند رمي الجمار:
فإنهصلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار في أيام التشريق إذا زالت الشمس،ويكبر مع كل حصاة، فإذا رمى الأولى وقف يدعوا ويتضرع، وكذا بعد الثانية،أما الثالثة فلم يكن يقف عندها.
وفي الجهاد:
رأيناهيتضرع ويدعو في بدر ويستنصر ربه حتى أنزل الله المدد: (إِذْتَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْبِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)
وفي يوم الأحزاب:
دعا ربه وتضرع حتى صرف الله عن المسلمين الشر وكفاهم كيد أعدائهم.
وعند الكرب:
يذكر ربه ويذل له ويدعوه:
" لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم."
وهكذا كان في كل أحواله صلى الله عليه وسلم وهكذا تعلم منه أصحابه وعلموا مَنْ بعدهم.
نسأل الله أن يجعلنا أفقر خلقه إليه، وأغناهم به عمن سواه.